A)
الاسبوعين الحادي عشر والثاني عشر كانا هادئين جدا وتخللهما الكثير من الروتين والايام المكررة .. على عكس الملل شعرت بالاستقرار والهدوء وفترات استرخاء واسعة ومتعة اكبر بأداء عملي ..
B)
بعد فترة الراحة والهدوء التي عمت عيادتنا اقتحمني الشهر الرابع من تدريبي باسبوع مليئ بالمغامرة ..كان الثلاثاء الذي اعتقده سيُحفر في ذاكرتي الى الابد .. فقد ذهبت وزميلتي مع الاخصائية النفسية التي تدربني الى جولة صغيرة لسجن النساء، كان الموضوع معدّ له قبل اسبوعين ولم اتحمس ابدا بل لم افكر في الذهاب اصلا، لا ادري هل غموض المكان وعدم معرفتي به جعلني اخشاه ام ماذا؟ ولكن وعلى عكسي تماما كان الحماس يملئ صديقتي وعينيها تبرقان لمجرد ذكر الموضوع، اما انا فلم ارتح ابدا للتجربة ولم اتقبلها ولا ادري لما كل هذة المشاعر المتقلبة.
لم انم جيد ليلتها واستيظت بعد اربع ساعات نوم فقط، وصلت للعيادة وتحدثنا قليلا ريثما ننتظر سائق ليأتي ويُقلّنا ..كنا نقرأ انا وصديقتي في احد الكتب العلمية ، _كان DSM-5 بالمناسبة_ ونتناقش في موضوع الإختبار الاسبوعي ونترجم عدد مهول من الصفحات، لكن قلبي كانت تنتابه مشاعر غريبة ذكرتني برحلات المدرسة الإعدادية الى الوحدة الصحية لأخذ التطعيمات كل فترة، كان قلبي يقفز بشدة .. خوف وقلق وترقب رغم علمي بأني سأكون بأمان لكنه شعور غريب ، قلق غامض .. هكذا كانت افكاري ودقات قلبي ونحن في الطريق .. هدوء وكلمات قليلة تتبعثر احيانا وسط الفراغ .. كل واحده منا في عالمها.
السجن يحوي الاف القصص المؤلمة .. فتيات ونساء لهن ماضٍ اليم وحاضر مُرهق ومستقبل لا ملامح له .. كنت اتحدث انا وصديقتي قبلها بيوم واخبرتها: اعتقدني لست خائفة منهن بقدر ما انا خائفة من الواقع الذي سأراه، القصص التي سأسمعها، جزء من عقلي يعلم بأنني سأتألم.
تحدثنا مع المسؤلة عنهن قليلا وقرأنا ملفاتهن، نريد ان نعلم حاجة كلا منهن للمساعدة ومامقدار مانستطيع تقديمة لهن. ثم تحدثنا معهن قليلا وواجهنا نظرات استطلاع وقليلا من الحوار.. في الحقيقة الوضع سيئ نفسيا، فعلى الرغم من كافة الخدمات المقدمة لهن سواء كانت مالية ام صحية لكن لايوجد تأهيل، لا يتعلمن حِرف او يقرأن كتب او يمارسن اية انشطة .. لا اعلم إن كان هذا الوضع بسبب انه سجن منطقة صغيرة ويحتوي عدد قليل من السجينات ذوات الاحكام الصغيرة ام ماذا؟
وبعدها قابلنا مدير السجن وفي الحقيقة رحب بنا وشكرنا على الحضور والتعاون فهي مهمة رسمية تطوعية ولا تأخذ الاخصائية المسؤلة عليها اجراً .. لكن زيارته كانت تجربة غريبة هي الاخرى وجديدة علي تماما .. غرفة العقيد وملابسة الرسمية بعدد من النجوم والاوسمة، وبجانبه الكاتب او الظابط المساعد له او ايا كان اسمه يجلس بتكشيرة صغيرة بين حاجبية .. ملامح معتاده من رجل قضى نصف عمره في هذه المهنة .. الغرفة متشبعة برائحة السجائر، مع رائحة قهوة خفيفة تفوح في الوسط ورائحة حبر واوراق طباعة، ولا اعلم في الحقيقة كيف وصلت الى انفي ولكن بالنظر لحجم الة الطباعة المجاورة لمكتبه والملفات التي تغطي نصف الجدار الخلفي لمكان جلوسنا والنصف الاخر عشرات من صناديق اوراق الطباعة الجديدة يوحيان بأن الرائحة حقيقة وليست من خيالي .. خطر في بالي كل الافلام المصرية والعالمية التي تحتوي مشاهد لمكاتب ظباط ، شعور غريب حقا لا ادري هل انا الغريبة التي تبالغ في استقبال الاحداث بمشاعر متضخمة ام ان حداثة التجربة حقا تأثيرها عجيب ..
بعد حديث قصير شعرت معه بالدوار من صوته المرتفع واستنشاق رائحة السجائر لفترة طويلة اصابتني بالإعياء، ولكن خرجنا نتمنى من الله ان يجعل المسؤل من القلائل الذين يقبلون الإقتراحات ويُخرجونها من الأوراق الى الحياة.
سجون النساء خصوصا في كل العالم حولها الكثير من الضباب، السجن ليس مكان للتعذيب بل لإعادة تأهيل الفرد لكي يصبح قادرا على الإنخراط في المجتمع بعد قضاء فترة تأديبة .. السجن الذي زرته والحمد لله كان يوفر الاساسيات الإنسانية التي يحتاجها البشر ولكن مازال الموضوع بدائيا جدا واتمنى انا اشارك مع زميلاتي في وضع خطط صغيرة لتأهيل السجينات ليصبحن اكثرة قدرة وإيجابية بعد خروجهن، وان نشارك في جعل شخصياتهن افضل.
الكثير من المواقف الصغيرة والمشاعر الكبيرة التي لن استطيع إظهارها بالقلم او على صفحة بيضاء على جهاز الكمبيوتر لكنها بالتأكيد سُجلت في ذاكرتي الى الابد.
الحرية نعمة لا مقُدر لها.. وقبلها نعمة العقل وظبط النفس .. نعمة ان أُدرك المشكلة واظبط مشاعري وأحلها بعقلانية هي اكبر النعم التي افتقدها كل من في السجون مهما تعددت الاسباب المؤدية لذلك.
الشيئ الاخير الذي تعلمته اليوم هوا ان الحياة مليئة بملاين التجارب التي يجب ان نخوضها بل ولدينا الإختيار الا نخوضها ايضا، ولكن هذا مايجعلنا نخسر الكثير من متعة الحياة في التعلم والتغيير ورؤية العالم من مناظير مختلفة، لا تخف .. جرب .. حاول .. ماتخاف منه سيفتح لك مئات الابواب الجديدة لعوالم اكثر نورا، فالخوف يُبقيك في صندوقك الصغير الآمن الى الابد بدون ان ترى متعة الحياة الحقيقة التي خُلقت لها.
C)
رحم الله الشهداء والفقراء العراة، ومن ينامون بين اكوام الثلج في المخيمات.. وإن نجو من الرصاص ماتو من الجوع والصقيع.
رحم الله من لا ذاكر لهم ولا باكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق