الأحد، 28 مايو 2017

الرحلة الحلم


الثاني من رمضان.. الرِحلة الحُلم

من فترة أحاول الخروج من حياة المدينة واستكشاف امكان جَدِيدة، ويغلبني العمل في كل مرة..
قررت مجموعة صغيرة من زملائي الذهاب في رحلة لمحميّة ما لم اسمع عنها من قبل ولم أُلقي لها بالاً، لولا ان تاريخ الرحلة لفت إنتباهي، 19 مايو، يوم ميلادي.. أظنها صُدفة رائعة تخبرني أن اتشجع وأُجرب الجديد دون خوف، وهي مناسبة جيّدة جداً لتكسير أي قيود أُريد التحرر منها.. وافقت بتخوّف وفي أخر لحظة أيضاً قرر أخي القدوم مع المجموعة.. وكانت الرحلة الحلم بالنسبة لي.
لقد نسيت كم أتناغم مع الطبيعة.. نسيت كيف ترقُص روحي طرباً وسط المناطِق العذراء التي لم يلوثها إنسان.. نسيت كم أرتبِطُ إرتباطاً وثيقاً بالهدوء والصفاء الذي يُسيطر على هذة الاماكن الخلابة..
في بداية الطريق مررنا على توليفة عجيبة من الأماكن.. قلعة صلاح الدين، ثم النيل الرائع بمراكب ضخمة تفتح أبوابها الفخمة كمطاعم بعدة نجوم، ثم طريق زراعي، ثم بُحيرة قارون وصحاري ممتدة تتخللها ارياف صغيرة.. توقفنا عِدة مرات وألتقطتُ صخوراً صغيرة بأشكال غاية في الجمال، كأنما رُسمت عليها مجرات وعوالم أُخرى .. ثم بدأ طريق المحمية يتعرج قليلاً حيث نقطع الان منطقة لا يوجد بها أي حضارة.. لا كهرباء، ولا شبكات إنترنت، ولا طُرق مُعبدة، ولا حتى إستراحات للتزود بالوقود مثلا .. فقط صحراء وسماء كالصورة أعلاه.. 

ووصلنا لوجهتنا: محمية وادي الحيتان.
قصتها تبدأ من 43 مليون سنة حيث كانت هذة المنطقة عِبارة عن محيط ضخم يضم انواع نادرة من الحيتان، ومع تحرك القشرة الأرضية خلال ملايين السنين جف المُحيط وبقيت هياكل الحيتان ملتصقة في القاع، حتى تم تصنيفها من اليونيسكو كأفضل محمية عالمية لهياكل الحيتان سنة 2005 .
مهما تحدثت لن أستطيع وصف شعوري وقتها، ان تمشي في مكان كان يوماً ما محيطاً ضخماً تملئة الحركة والحياة والأسماك العائمة، كنت اتخيل مع اصدقائي ان حوتاً ضخماً يمر بجانبنا سابحٌ في ملكوت المكان، يتقلب بنعومة وينفث مائه على السطح بقوة، ويتواصلُ مع سِربِه بصوته الناعم .. شعور غريب.. 
المكان يحتوي على متحفان، أحدهما مُغلق وصغير به معلومات وهياكل عظيمّة للحيتان التي استطاعو إستخراجها، وصور مكبّرة بها شروحات جيولوجيّة. والاخر متحف مفتوح، مساحة ساشعة من الصحراء المفتوحة، فقط بها علامات على الارض لتدلك اين تذهب، وتدلك على اماكن الهياكل العظيمة الظاهرة من قلب الارض وفي وسط الجبال "التي كانت يوما ما قاع المحيط".
المكان ساحر، كانت الشمس قويّة، والسماء بها سُحب متناثرة كأنها حلوى غزلِ بناتٍ ضخمة ونقيّة، الهواء قوي مُحّمل بالرمال التي تصطدم ببشرتنا كل فترة، غير ذلك كانت رحلة مثيرة جدا للإهتمام.. 

 من فوق حافة جبلية التي تُطل على المحمية
صعدت مع اخي جبل صغير منحوت من عوامل التعرية بأشكال ساحرة، تسلقت بهدوء لم يكن ضخماً لكنه بالتأكيد ليس ارتفاعاً هيناً.. العالم من الأعلى ساحر.. كأن الدنيا كلها تحت قدمك، لا شيئ يهم، ولا مشكلة تبقى، ولا شيئ يُخيف، كل شيئ صغير وضعيف .. كأنك ترى الدنيا على حقيقتها.
الشمس تغرب بخفّة.. وبعض الزوار يتسابقون على أخذ صور وهم جلوس على حافة الجبل المنحدر..

في السابعة تناولنا العشاء المشوي على الحطب، وسط زوجٍ من الثعالب تُغريها رائحة الطعام.. لطيفين وصغيرين في حجم القِطة تقريباً، وهو حجم البالغ منهم. وضعنا لهم اخر الطعام حيث كانا يركُضان طوال النهار يلهوان حول المخيم، إحداهُما أُنثى أقتحمت علينا الخيمة بصمت وخفّة فاجئتني اكثر من وجودها الغير متوقع.

عندما حل الظلام اخذنا حقائب النوم وافترشنا الصحراء وبدأت بعد الغروب اول ومضاتِ سحر الليلة.. السماء تتلئلئ بالنجوم كأنها قطيفة سوداء ضخمة مليئة بالألماس .. لا شِبر فارغ، كُلها تلمع بزهوّ واضح تجعلني اتحسر على ليالي المدينة الخالية إلا من نجمةٍ يتيمة تلمع دائماً.. إصطحبنا المهندس الفلكي الرائع عصام جودة في جولة عبر السماء، حيث نمنا على الارض في الظلام الدامس ننظُر نحوها وهو يشرح بضوء الليزر كل نجمة وكل كوكب، تعرفنا على الابراج وكيف نوصّل بين نجومها حتى نرى شكلها النهائي التي سُميت عليه، وكوكبة الدُب الأكبر العظيمة حيث رأيتها مُتصلة للمرة الأولى بعيني وليست في الصور..
 شاهدنا بعض الكواكب بالعين المجرده ثم رأينا تفاصيلها عبر التلسكوب الضخم، كالمُشتري ونجومه الاربعة الصغيرة، وزُحل وحلقاتِه البديعة، وتفاصيل القمر وسطحة المتعرِج.. كأنها سبورة عظيمة فوقنا وهو يشرح بخفة وإحترافية عالية مُردِدً " السماء بيتي"

 ذراع المجرة من خلف الجبل

بعد ساعتين ظهر ملِك الرحلة كُلها "ذراع المجرة" .. أشاهده للمرة الأولى في حياتي بعيني المُجردة بلونه الأخضر والأصفر الخفيف الساحر، يُطِل من فوقي بكل عظمة.. كانت عيني تُردد: يابديع السماوات والأرض، يامصوّر كل شيئ.. حقاً انت الله. 
كنت أعتقد لسنوات ان صور ذراع المجرة ما هي إلا صورٌ تلسكوبيّة تُظهِرُ هذة التفاصيل، لم اكن اتخيل في اجمل أحلامي أن أراها بعيني وانام وهي تمر فوقي لساعات..  سبحان الله مُبدع كل شيئ. 
إلتقط اخي لها صور بكاميرا إحترافية، لكن الهواء لم يكن مستقراً والرمل يملئ الجو ويهز الكاميرات العِملاقة، فلم تظهر بالشكل الذي يريده لكنها بالنسبة لي أكثر من كافية لأضل مُتذكِرةً هذة اللحظة إلى الأبد .. " جبل مقوّس يحتضِنُنا، وضوء النار، وذراع المجرة في يوم ميلادي"

اكتملت الليلة بحفلة سمر حول النار بغناء البدو المستقبلين لنا في أجواء خياليّة، وشواء مرشملو لطيف، وفاجئوني بكعكة كبيرة عليها شمعات وغنو لي "سنة حلوة ياجميل" بأعلى صوتهم..
كانت ليلة ولا ألف ليلة، رِحلة أحلامي بحق.. تركتُ قِطعةً من قلبي هناك للأبد. لم اكن أعلم أن للصحراء هذا التأثير الآسر عليّ. عدت للمدينة ونومي اصبح أعمق، وتركيزي أعلى، وكأن الرِمال إمتصّت كُل الطاقة السلبية والتوتر والقلق وتركت لخلايا جسدي السكون والهدوء وأعادت ضبط المصنع كما صنعهُ الخالق..

سياحة الصحراء مُمَيزة للغاية، لا تترددو أبداً في تجرِبتها، ستُفاجأون بِسحرِها وبالأثر العظيم الذي ستترُكه على قلوبِكم.. فقط إختارو الصُحبة المُناسِبة التي تُحب تجرِبة الجديد، ولا تتذمر من إنقطاع الإنترنت ليوم أو يومين، او إمتلاء أحذيتهم بالرمال، بل إختارو من سيترُك حذائه ليجرب ملمس الصحراء تحت قدميه، وينام في حقيبة نومٍ وسط الفضاء حيث لا جِدار ولا سقف، ويركض لاهِثاً ليلتقط صورةً للثعلب وهو يقتحم الخيمة مُحاوِلاً البحث عن الطعام ..

إن كنتم ستذهبون بمفردكم فاختارو المجموعة السياحيّة السليمة التي تُحب الإستِكشاف وتُحب الأرض وتُقدّس الطبيعة، وهذا ما باركني الله به، حيث كانت مُنظِمة المجموعة السياحية التي سافرت معها الجميلة "نرمين سامي" ، تعشق ماتعمل، ولا تملُ من الإجابة على اي سؤال في أي وقت، وكذلك مهندس الرائع الذي يشرح بإتقان لساعاتٍ دون تعب، ترى حُبه للفضاء يخرُج من قلبِه ليصل إلى قلبك .. ليسو هواه، بل محترفين يؤمنون بما يفعلون.
السياحة الحقيقية هي إكتشاف المجهول، والتمتع بإحساس المغامرة وأنت تتسلق أول جبلِ لك في حياتك، أو تنظر لأول ذراع مجرة تراه، او تلمس هيكلاً عظمياً لحوتٍ عِملاق من ملايين السنين.. السياحة ليست في المقاهي والحدائق، بل في العالم الحقيقي، والبيئة النقية، والبحث عن المختلف، والتعرف على أصدقاء جُدد ألقى بِهم الكون أمامك ليُشاركوك غرائِبيّتك وعقليتك ومشاعرك المختلفة.


تحديث بتاريخ 3/6/2017 
نشرت قناة الجزيرة الوثائقية فيلماً عن "محمية وادي الحيتان" في منتهى الروعة والجمال ومليئ بالمعلومات الكثيرة التي ستُغري قلب وعقل كل مُحب للطبيعة وللتاريخ الجيولوجي 
هنا الفيديو على اليوتيوب .. إستمتعو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق